دنــــــــــانــيـــــــــــــــــر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دنــــــــــانــيـــــــــــــــــر

ثقافي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم


بحث عن:

المواضيع الأخيرة
»  جمهرة رسائل العرب
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالثلاثاء يونيو 11, 2013 10:35 am من طرف شيرين عابدين

» فنـــــــــون
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالأربعاء مايو 29, 2013 8:40 pm من طرف شيرين عابدين

» تَأمَّلْ أقوالهم ... ولتكنْ أعمالـَك !
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالأربعاء مايو 29, 2013 8:18 pm من طرف شيرين عابدين

» رسالة قصيرة
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالأربعاء مايو 29, 2013 8:14 pm من طرف شيرين عابدين

» قصة كفاح ... ونجاح ...
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالإثنين مايو 06, 2013 11:10 pm من طرف شيرين عابدين

» مقتطفات من مجلة علم وخيال
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالإثنين مايو 06, 2013 11:06 pm من طرف شيرين عابدين

» قراءة في دفاتر بعض الحمير
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالخميس أبريل 25, 2013 1:41 pm من طرف شيرين عابدين

» ندوات ومؤتمرات
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالسبت أبريل 13, 2013 8:05 pm من طرف شيرين عابدين

» الموقع الرسمي لهيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للإفتاء
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالسبت فبراير 09, 2013 6:18 am من طرف شيرين عابدين


 

 مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد جمال صقر
مشرف



عدد المساهمات : 26
تاريخ التسجيل : 19/04/2012

مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Empty
مُساهمةموضوع: مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ    مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ  Icon_minitimeالأحد مايو 06, 2012 12:00 am

مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ
لِلدُّكْتورِ مُحَمَّدْ جَمالْ صَقْرْ
كلية دار العلوم * جامعة القاهرة
mogasaqr@yahoo.com
إنّني لَطَروبٌ ، قد اسْتَوْلَتْ عَلَيَّ " والأَعْشى إذا طَرِبَ " .
بها فخُذني - أيها القارئ العَتيدُ - لا بغيرها ؛ فلم أكن أحسن حالا مني إذا طربت ، ثم لمّا عرفتُ الأعشى تَعاشَيْتُ راغِبًا حتى إذا القُرّاء قالوا : يا أبا بصير ، خِلْتُ أنني دُعيت ؛ فلم أَكْسَلْ ، ولم أَتَبَلَّدْ !
وماذا تبتغي القُرّاء منّي وقد غَيَّرْتُ حَدَّ العاقِلينِ !
إنهم لهاربون ، قد اسْتَوْلَوْا على " والنّابغَةُ إذا رَهِبَ " .
بغيرها فَخُذْهُمْ - أيّها القارئ العَتيدُ - لا بها ؛ فما هم من رَهْبَةِ النابغة ولا عَتْبِهِ إلا " كَالهِرِّ يَحْكي انْتِفاخًا صَوْلَةَ الأسَدِ " ، أو كسامّ أَبْرص يحكي تَثاؤبًا نَهْشَةَ التِّمساح ، ما وراء أَكَمَتِهِمْ من شيء إلا التَّدْليس وإلا التَّلْبيس ، اللذين لا يستوليان على البَيان إلا حين يستوليان على الجَنان ؛ فإذا القراء على شَفا جُرُفٍ هارٍ . ولكن لا يحبون الناصحين !
شَرِقوا شَرْقَةً بما حَصَّلوهُ ذَبَحَتْ عِلْمَهُمْ فَغاروا وَغارا
أَمّا أنا فَطَروبٌ ، قد اسْتَوْلَتْ عَلَيَّ " والأَعْشى إذا طَرِبَ " .
أَتَدْري - أيها القارئ العتيد - ما هذا الطَّرَبُ ؟
إنه مِزاجٌ من نَشْوَتَيْنِ مَعْنويةٍ ومادِّيةٍ ، يُمازج الطَّروب ؛ فيُذْهِلُه ، ويَستَخِفُّه ؛ فيجترئُ على ما لم يكن لِيَجْتَرِئَ عليه .
آه ، لو تَيَسَّرَ لنا أن نطرب متى شئنا ، إذن ... ولكن لو بقينا طِرابًا ما كتبتُ لك ولا قرأتَ لي !
أجل !
إنني إذا طربت رَجَعْتُ إلى حالي الأولى ؛ فبقيت فيها على حالي الأخيرة ؛ فلا يكون أَدْخَلَ في الجنون منهما ؛ فلا الأولى أولى ، ولا الأخيرة أخيرة !
صباح الخير .
صَباحكْ صَبــاحينْ صَـباحِ الْهَنا وَيـّا الزينْ
صَــباحْ مِنْ رَدّ دينُهْ وِارْتَجَعْ ما عَليهْشِ دينْ
هكذا عودتني جدتي مبروكة ، أن تغني لي تحيتها البديعة كلما طلعتُ عليها من هذه القاعة البَرّانيَّة المجيدة التي أعشق تعليق عيني على سقفها المُصْطَفَّة فيه عيدان البوص على جُذوع الجَزْوَرينِ ؛ فأتناوم بعد يقظتي إلى أَنْ تملَّني ، مثلما تَعَوَّدَتْ أن تَخْلُفَ جدي على مَصْطَبَةِ مدخل الدار ، تتلو أذكار الظهر التي لا يعلمها إلا الله ، وقد اضطرَّها المَرَضُ والسِّنُّ ، إلى أن توكِل إلى إصلاح ابنتها الصغرى ونادية ابنة فاطمة ابنتها الكبرى ، عَجْنَ عَجينتين من طحين القمح : صغيرة للفطير ، وكبيرة للخبز ، وأن تَخْتَصَّ هي بأَبْرِمة الأُرْز المُعَمَّر والبَطّ المُحَمَّر !
أرتاح إلى جوارها بينها وبين صَحْفَةِ قُلَلِ الفَخّارِ القناوية .
كيف كان نومك ؟
أحسستُ لشيء ما دبيبًا عامًّا ، كأنَّ قافلة من أُمَّة النَّمل تمهد لأنفسها طرق قريتها ؛ فهي ذهابٌ على جسدي وإيابٌ لا ينقطعان ما استغشيتُ حِرام جَدّي !
تضحك جدتي تضحك تضحك حتى تُبدي فَكَّيْها الاصطناعيَّيْن اللذين بَرَّها بهما عمي ، ثم تضرب يمناها في جيبها التائه في طوايا جلبابها الجديد الذي بَرَّها به أبي ؛ فتستنبط لي تَمَرات وسودانيّات تعرف أنهما يبهجانني إذا اجتمعا ؛ فأُزاوِجُ بينهما في فمي صافحا عن النمل .
ثم تقوم إلى صُفَّتها قليلا ؛ فتأتيني بطبق فَتيتِ الرُّقاق بالحليب المقدَّس ، ثم تقوم إلى ما جَهَّزَتْه للفُرن الصغير بالقاعة الجَوّانيَّة الغَرْبيَّة .
ولد ، يا محمد ، الآن انتبهت ؟
يا حامي - مُقلِّدًا جَدّي الغائب - أَلا أُفْطِر !
لقد تَغَدّى الناس !
وماذا أكلوا ؟
اصْعَدْ - يا خائب - إلى السَّطح ؛ فارم لنا من حُزَم الحَطَب وأقراص الجِلَّة .
طرتُ مبتهجا ؛ فما أحبَّ الأسطح إليَّ ! أحظى بالسماء ، وأَتَسَرَّبُ سريعًا إلى خبايا الحزم المتراكمة والأقراص المُصْطَفَّة ؛ عسى أن أقع على أَوْكار عصافير أو يمام أو مَحاضِن دجاج أو بط أو عُرُنِ كلاب أو قطط ، ثم بحجة الائتمار والتَخَيُّر أقلبها جميعا رأسا لعقب ، وأُلقي من صَلْعَةِ السَّقْف السَّماويَّة حتى تستكفيني نادية ؛ فأنزل لأشهد كيف تحرق قلب فرن الرَّحْبة الجَوّانيَّة الجديد الذي شهدت بناءه ، وأحببت سِتَّهم الفَرّانة الهيفاء التي تَعَلَّقَتْ بها في خلال بنائها له أسماعُ الرجال والنساء وأبصارُهم وأفئدتُهم !
كانت نادية تحشو بَطْنَهُ حَطَبًا ، وَزَوْرَهُ جلَّة ، ثم بالمصْلََحَة تجلو صَفْحَةَ بلاطته تُؤَهِّلُه لأقراص عجينة الفطير الطاهرة الفاخرة المُتَخَمِّرة ، وكانت عمتي تستر وجوه الأقراص الشريفة ، بخُمُر الزُّبْد الشَّفيفة ، ثم أقبلتا تتعاونان على مناولة فم الفرن ما تَبْهَرُ به قَريتُهُما سائرَ القُرى .
تُرى مَن تَفوز ؟
أيَّتُهما التي تملأ بلاطة الفرن أقراصا أكبر وأكثر ؟
ليس في اثنين ولا ثلاثة من براعة ؛ فربما قدر عليها صبي مثلي ، فأما البراعة ففي أن تُرَتِّبَ إحداهما أربعة أقراص كبارًا أو أكثر ، على بلاطته المحدودة من دون أن تمسَّ أطرافها جوانب الفرن وإلا شَوَّهَتْها وأضحكت عليها خَصيمتها .
إن نادية لبارعة ، ولكن عمتي أََحْفى دائمًا بذلك وأقْدر عليه ، وإنني لشديد الابتهاج بهما أَسيرُ أيديهما حتى فرغت .
عمتي إصلاح ، اكشفي لي حظي .
فتَمُطُّ بيديها طرف عجينة الخبز الكبيرة من وعائها الضخم ، فيمتد لها لسان طويل ، فترفعه إلى آخر مداه ، فتهوي به طبقا على جسم العجينة ؛ فتنتفخ بين طبق العجينة وجسمها نُفّاخة ما ، ربما كانت كبيرة ؛ فدلت على عظم حظي ، وربما كانت صغيرة ؛ فدلت على ضآلته !
أراها تنتفخ فتنخرم فتذهب كأن لم تكن ؛ فأضحك : ما هذا الحظ المخروم !
حتى إذا ما فَرَغَتْ من تَقْريص عجينتها الكبيرة ، تركت الأقراص تتخمَّر ، وأغلقت عليها باب القاعة البرانية التي لن أنام فيها مرة أخرى !
بنت يا نادية ، ألم تُنَبِّهي على نَوْبَتِنا من فرن أبو سليم ، كما قلت لك ؟
بلى نبهت ، وقبلنا ثلاث : فاطمة امرأة حمدي ، وفاطمة امرأة أحمد ، وجمالات امرأة مزروع ، وبعدنا ...
لا ، لا . ينبغي ألا يكون بعدنا من أحد ؛ فمن أرادت فلتتقدم قبلنا ، وإلا أَخَّرْناها إلى آخر الليل .
ولد يا محمد ، انزَرِعْ هنا ، ولا تدع أحدا يفتح باب القاعة ، وإلا دخلت الطيور فأكلت الأقراص أو أفسدتها .
ما أَطْرَفَ أن أرى الأقراص تزيد وَحْدَها على لَوْحِها ، ولكنني لا أتحمل المراقبة .
أَأَفِرُّ قريبا إلى دار عمتي عَدْليَّة التي أغامر بالنفاذ إليها أحيانا من فوق الأسطح فأصعد فأتعلق وأخترق فأزحف وأهبط فأمشي فأفضح وأخرب وأستر ، حتى إذا ما وصلت غافلت عمتي فسرقت حمارتها إلى العرقوب أَتَحَمَّمُ بالمشروع مستأنسًا بالفتيات يغسلن مواعينهن ، أو إلى حوض العرب أصطاد أمشاط البُلْطي من ترعة رأس الغيط ؟
أَمْ أَفِرُّ بعيدا إلى دار جدتي نعمات خالة أمي التي أتسرب إليها من خلال دار سَيِّدَتِنا صَنْصَف بظهر الشارع دون أن تدري العجوز المُحَفِّظَة قصار السور بتلحين أطفالي عجيب لا تَمَّحي من الذاكرة أصداؤه ، فأَتجاوز إلى الزُّقاق لأعتلي سوره فأثب إلى شريان السقاية في الجهة الأخرى فأظل أجري فيه مجرى المياه ثم أدخل من رحبة رأس الغيط ، حتى إذا ما وصلت تَعَلَّقْتُ بجدتي أن تحكي لي من أخبار العَبْسيِّ أو التَّغْلَبيِّ أو الهِلاليِّ التي تحفظها وتتقن حكايتها ؟
أَمْ أَفِرُّ أبعد إلى دار عمتي فاطمة التي أخشى أن تطبق على جنبيَّ في خلال سعيي إليها جُدرانُ دور زُقاقها الخارج على تقاليد طرق الأرض ، حتى إذا ما وصلتُ غافلت عمتي فهربت بسَميّي وأخي فَرَطاتي ابنها الذي لا تمنعه تحذيرات أبيه من أن يتعلق بي كما أتعلق به ، ويا ويلهم إذا اجتمعنا فجَرَّأَ بعضنا بعضا فلم يعرف لنا أحد سبيلا ولم يستطع حيلة ؛ فَمِنّي الرَّغْبةُ في التَّفَلُّت ، ومنه العلم بِمَنادِحِهِ ، وعلى الدنيا السلام ؟
بل أبعد !
سِحْنا جياعا عطاشا حفاة شعثا غبرا ، لا يعطفنا طعام ولا شراب ولا حذاء ولا كساء ، إلى المساء ، حتى إذا ما أُبْنا ، وبلغنا ناصية شارعنا ، وجدنا مهرجان الفرن الأكبر !
اللهم شكرًا شكرًا !
تقود دور شارعنا ، دار محمد أبو سليم التي تفتح بابها في عمود طُرُق القرية . دارُ نَعْمَةٍ وكرم . كم قضينا فيها ليالي رمضانات نشاهد المسلسلات المُتَلْفَزة الآسِرَةَ ، حين لم يكن في غيرها من دور شارعنا جهاز واحد ؛ فمن اطلع على الرَّحْبَةِ العليا من تلك الدار بعد الإفطار ، اطلع على شَعب من الأطفال يَدينُ للممثلين بجوارحه كلها ؛ فلا يَتَلَهّى عن حركاتهم ولا سكناتهم ، ولا يُلْهي عنها ، ثم هو لا يبرح أرض الرحبة فُرادى بل جماعات ؛ فلن يُفرّط في هذه المتعة واحد ، ثم لن يجرؤ على أن يمر بالطابق الأسفل المظلم من هذه الدار الكبيرة وحده !
ثم كان من كرم هذه الدار ، أَنْ بَذَلَتْ خَدَّها الأيمن لمقام الفرن الأكبر .
لقد كانت أفران قريتنا ثلاث طبقات :
أدناها طبقة أفران القاعات ؛ ففي أحد أركان كل قاعة من كل دار ، يقوم فرن صغير على أسرة القاعة ، ينضج لها قوتها الخاص ، ثم يحفظه ، ويَدْرَأُ عنها قسوة البرد ، ويحتضن بظهره صغار طيورها الخاصة .
وأوسطها أفران الدور ؛ ففي رحبة كل دار الجَوّانِيَّة الضاحيةِ للشمس ، يقوم فرن كبير على أُسَر الدار، ينضج لها طعامها العامَّ ، ثم يحفظه ، ويَدُلُّها بشعاع الشمس عليه ، على مواقيت الأعمال !
وأعلاها طبقة أفران الشوارع ؛ فإلى أحد جدران دور كل شارع ، يقوم فرن أكبر على أهل الدور ، ينضج لهم طعام الطوارئ ، ويغنيهم كثيرا عن وقوده ؛ فلن تعدم امرأةٌ عليه تِرْبًا تُهَيّئُ طعاما ؛ فهي لا تَتَلَبَّثُ عنده طويلا حتي يَحْمى ، بل تكاد لا تبذل في إحمائه عودا ولا قرصا .
لم تعبأ دار محمد أبو سليم بعمود طرق القرية الذي بابها فيه ، بل تمسكت بشارعنا وآخَتْ دوره برًّا بُنِيَتْ عليه ، ثم كان برّها الأكبر بالفرن الأكبر.
محمد ، هي ذي نادية أختي ، وخالتك إصلاح !
هكذا هو دائما ، يجعل عمتي خالتي ، على عادة المُتآخين في قريتنا !
ولد ، يا ابن فاطمة ، إلى أين أخذت ابن خالك ، يا ملعون ؟
هكذا هي دائما ، تجترئ على أبناء أَخَواتها أكثر من اجترائها على أبناء أخيها الكبير أبي الذي كان لها أَبًا ثانيًا ، وكأنهم كانوا لها إخوانًا آخرين ؛ فلم يكن منهم إلا أن صَدَّقوا !
تَلَقَّفْ هدايا خالتك !
عمتي إصلاح ، نادية ! أنتما هنا ؟
منذ العصر بعدما هَرَّبَكَ ابن فاطمة !
لا ، والله ، ياعمتي ، بل أنا هَرَّبْتُه ، ولو عرف أبوه لرماه في الترعة كما فعل من قبل ، ولكنه من أجلي أنا لا يبالي !
اقترب ... خذ !
ما هذا ؟
سوداني محمص وذرة وبطاطس مشويتان وخبز قمح طازج ، هدايا الفرن الأكبر !
لقد كان من كراماته ألا تذهب عنه خابزة حتى تودع عند أهله من نفحاتها ، ومن قبلُ ما تُقْسِمُ على الذاهب عليها والآيب ، إلا ما ذاق من عمل يدها ، ولْيَكْفِها عَفْوُه عن إنكارها لعمل يده !
الله ! جاءت في وقتها . ومحمد ؟
هو شبعان منها !
هكذا أهل دار جَدّي دائما ، يميزون في الشمس أبناءهم الزائرين من أبنائهم المقيمين آمِنين بخَصْلة الوُدِّ لِمَّةَ الحِقْدِ ، ولكنني أقسمها كما أفعل دائما بيني وبينه ؛ فلم يكن ليشفع لجوع اليوم الذي أراه ، شبع الأمس الذي لم أره !
قعدنا نلتهم ما أمامنا ، لا نميز لبه من قشره ، ولا نضيجه من حريقه ، خلف لوح أقراص عجينة القمح الذي تُناول منه عمتي ونادية فم الفرن ، حتى أقبلت صباح خادم سيدتنا صَنْصَف .
بالله ، يا خالتي إصلاح ، اسمحي لي أن أخبز هذين القرصين لخالتك صنصف تُصِبْكِ بَرَكَتُها .
الآن ؟ ألا ترين ما نحن فيه ؟
سامحيني ، لقد شغلتني حتى تَفَلَّت الوقت .
لم تُخَلِّ لها عمتي ونادية عن فم الفرن عند أقرب فراغ من مناولاتهما ، تَبَرُّكًا ، بل تَخَوُّفًا ؛ فلقد اشتملت سيدتنا صنصف ، ببركة كتاب الله ، على لسان ذَرِبٍ لا يقوم له شيء إلا أقعده ؛ فما ثَمَّ امرأة عاقلة تحتاج إلى أن تستثيرها .
ولو أنها صباح واحدة لهانت ، ولكنها صباح واثنتان وثلاث !
لمّا عمت البركة ، تواترت من كل جهة إلى الفرن الأكبر ، النسوة المستعجلات المستسهلات الهازئات بقانون النوبات المختلفات عُدَّةً وقُدْرَةً ومَهارَةً .
سُبحانَ الذي خَلَقَهُنَّ !
كلُّ امرأةٍ جَبَلٌ لا يَظْهَرُهُ الرجال !
لم تمنع أيًّا منهن جَفنةٌ على رأسها ، ولا رضيعٌ على ساعد يسراها ، ولا يسرى صبيٍّ مُتَعَلِّقَةٌ بيمناها ، ولا يمنى صبيةٍّ متعلقةٌ بذيلها ، من أن تريد الفرن الأكبر ، وتذود عن إرادتها .
ليتهن لا يسكتن ؛ فليس أعذب في الموسيقا الفَلّاحيَّة من تخاصمهن وتسابهن وتلاعنهن !
يا بنت ، يا مَلْسوعة ، يا مهجورة ، يا وجه الفقر ، يا سَقَطَ المتاع ، يا قَعْرَ الماعون ، يا رماد الفرن ، يا خَميرة الخراب ، يا طعم القَيْءِ ، يا سِباخَ الزَّريبة ، يا وَحَلَ الخَرّارة !
بتّة تبتّك ، يا غَضَبَ الله ، يا غول المَشْروع ، يا أُمَّ أربعة وأربعين !
مسكينةٌ هذه البنت ، ساذَجةٌ لم تتأدب بعد ، فأما تلك المرأة فينبغي أن تكون عماد هذا الفن ، وملاكه ، وقوامه ، وذروة سنامه ، وأن يكون من بين يديها جرى ينبوعه ، وتدفق سلساله ، وعنها تواترت نصوصه ، وتزخرفت فصوصه !
ولكنهما لا تلبثان متى جلستا في حضرة الفرن الأكبر ، أن تأتلفا أختين شقيقتين لم تخرج من فم إحداهن إلى أذن الأخرى عَيْبَةٌ قَطّ ، تتكاشفان وتتناصحان آمِنَتَيْنِ ، بل تَكُرّان علينا أنا وابن عمتي ، ساخِرَتَيْنِ مِنْ لَهْجَتي الحَضَريّة مَرَّةً ومن العُمْدة وظِلِّهِ الحارس الأمين فينا مَرَّةً أُخْرى !
هيا ، يا عيال ، احملوا هذا الخبز إلى الدار ، وسآتي أنا ونادية بما بقي .
كذا نساء دار جدي دائما ، يخفن على أبنائهن الزائرين العيون القَوْراء ، وكأننا إذا ابتهجت بنا امرأةٌ أَنْ : " يا سَعْدي ، هؤلاء أبناء أخيك ! " ، سَقَطْنا عند مُنْحَدَرِ الكافِ .
يا سلام ! دعي نادية تأتي هي به وراءنا !
هذا مساء بديع ، دارنا مستباحة الأحشاء للقرباء والغرباء ، ثم أحشاء دور شارعنا مباحة لها ؛ فلم يكن لجار ولا جارة أن يتأخرا عما يجوز لها أن تحتاجه في هذه الليلة .
وهذا الباب الطويل العريض المفتوح يبسط للدار في الشارع رحبة ويمد للشارع في الدار دربا ؛ فتمَّحي خصائص الدار والشارع ، وتثبت خصائص العُرْس .
ليس أحبَّ إليَّ مِنْ فَوْضى تشغل الكبار !
ينفذ في خلال الزحام صوت قديم لفاطمة عيد ، بهجة عمتي إصلاح :
خَلِّ بالَكْ يا وَلا ، خَــلِّ بالَكْ
أُمّي وَبويا ضَرَبوني عَلى شانَكْ !
فيحرك ساكن الصبابة في قلوب الكبار ، ويكلأ نابت الألفة في قلوب الصغار .
ينبغي أن يؤرخ بهذه الليلة لمَسْرى الكهرباء في مصابيح هذه الدار ؛ فقد جُهِّزَتْ من قبل ولمّا يُعَلَّقْ لها عَدّادُها ، ثم أضيفت لها اليوم مصابيح الزينة ؛ فلم تكن ثَمَّ حيلةٌ عند جمهور المزدحمين إلا سَرِقَة التيار !
طرت أنا ومحمد إلى السطح ، فجذب لي من إحدى حزم حطب الذرة المتراكمة ، عودا طويلا ؛ فشَقَقْتُ رأسه ، وأَنْفَذتُ فيه طرف سلك التغذية المثني كصنّارة خبيثة ، ثم مددته ؛ فاصطدت به سلك التيار العام المتعرض كسمكة طيبة ؛ فَأَزْهَرَتِ الليلةُ وابْتَهَجَتِ الدار !
وَصَلَ العَروسان ، وَصَلَ العَروسان ، وَصَلَ العَروسان .
طار الجمهور كله هذه المرة ، إلى ناصية الشارع حيث تضرع السيارة عند عتبة الفرن الأكبر ؛ فلا يجوز لها أن تتخطاها ؛ فينزل عمي الرجل الوديع الجُيولوجيُّ وعروسه الشابة الحَسْناء المُحاسَبيَّة ، تاركَيْنِ أنفسَهما لتَيّار أهلنا الفلاحين المزدحمين ؛ فيصدح الزفاف متطابقةً فيه صَفَقاتُ الأَكفّ ونَغَماتُ الأصوات .
حَلاوه بيضــا عَ الميزانْ
والنَّبي بيضــا عَ الميزانْ !
كُتْر المـــالِ يجي بالغالي
كُتْر المـــالِ يجي بالغالي !
فإذا قلت لي : قد أفسدت ببيان عبد القاهر الجرجاني ، ومحمود محمد شاكر - رضي الله عنهما ! - هذا المقامَ الفلاحيَّ المَحْضَ ، أنشدتُك :
مَنْ لَكَ بِالْمَحْضِ وَكُلٌّ مُمْتَزِجْ وَساوِسٌ في الصَّدْرِ مِنْهُ تَخْتَلِجْ
مَنْ لَكَ بِالمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضُ يَخْبُثُ بَعْضٌ وَيَطيبُ بَعْــضُ !
ثم قلت لك : بل قد نسيتَ أنت أَخْذَةَ الطَّرَب !
أَتُرى هَرَبَهم أحبَّ إليك - أيها القارئ العتيد - أم طَرَبي هذا ؟
لا لَعًا لَهم !
لا لَعًا لَك !
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مِهْرَجانُ الْفُرْنِ الأَكْبَرِ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
دنــــــــــانــيـــــــــــــــــر :: دنانير الأدباء والمفكرين :: دنانير الدكتور محمد جمال صقر-
انتقل الى: