شِعْرُ الْفَتَياتِ الْمَضْفورُ !
للدكتور محمد جمال صقر
تَتَحَرَّجُ شوادي الشعر أحيانا من عرض شعرهن على الناس ؛ فربما فسروه بأنه من كشف ما ينبغي ستره ، لا من البَوْحِ التَّثَقُّفيِّ الذي تَتَأَمَّلُ به الفتاةُ البائحةُ نَفْسَها ، التَّثْقيفيِّ الذي تُتيحُ به الفتاةُ البائحةُ خِبْرَتَها لغيرها - حتى إذا ما أَوَيْنَ إلى والدٍ أستاذٍ أو أستاذٍ والدٍ يَعرفُ حَقيقةَ بَوْحِهِنَّ ويعطف عليهن ، وَثِقْنَ به ، وارتحن إليه ، وعرضن شعرهن عليه ؛ عسى أن يَدُلَّهُنَّ من أنفسهن على ما لم ينتبهن إليه ، ثم من شعرهن على ملامح الخصوصية التي يَتَعَرَّفُ بها الصدق الفني .
ربما كانت شوادي الشعر الجامعيات أَجْرَأَ جُرْأَةً من غيرهن ، ولكنهن لا يخلون من ذلك الحرج ! لقد جاءتني فتاتان جامعيتان واحدة واحدة ، تُقَدِّمُ كلٌّ منهما رجلا وتؤخر أخرى ، وكأنها ذاهبة إلى النائب العام ، لتعترف بجريمة لم ترتكبها ؛ فانتزعتُ أقوالهما ، ثم قعدت وحدي أقضي بينهما !
أولاهما شُمَيْسَةُ النُّعْمانيَّةُ التي تقف على عتبة التَّخَرُّجِ ، بقصيدتها " أَنامُ عَلى ضِفَّةِ الْحُلْمِ " - وإن لم تعنونها ! - :
" أنامُ
على ضفة الحلم بين الحقيقة والمستحيلْ
أنامُ فتصحو
رؤًى للحياة
وجوها معرفةً في سجلي
وأخرى مُعَرفة في سجل الغيوبْ
ورغم تمازج كل الوجوه بصمت مهيب
وقد غُسلت بالتشابه حقا
وَجَدْتُكْ
فَفَعّلتُ ذاك الرباط الخفيّ
شعاعًا إليكِ
كما الشمسُ
ترسل رابطها في النهارْ
يعانقُ بعض الديارْ
وصافحتُ قلبا قديما بقلبكْ
ولكن جِسْمَكِ ظَلّ يُباغتنني بالغيابْ
لِتُخْفيكِ نيّاتُ بعض الأزقةِ
تلكَ الغريبةُ عنكِ وعني
فما مبتغاكِ إليها
فديتك رُدّي عليّ الجواب
فما أبطل العُجْبَ إلا السَّبَبْ
وإن استتارك من موجبات العُجابْ
ويزداد بُعْدُكِ عُمْقًا
ويزداد صَمْتُكِ وَقْعًا
فديتك عودي إليَّ
وإذ كثّفَ الغيبُ سُمْك الضباب
وإذ لم تعودي
سأبكيك حزنا يناثرُه الغيم في كل آنْ
سأبكيكِ طوعا وقسرا
بكل الذي فيّ من ملكات الحياةْ
فليس النواح كما قيل قِرْنَ البدن
ولكنه صوت حزن الفؤاد
الذي فارق الأبجدية من زمن الأولين
سأبكيك
منذ الزمان القديمِ
إلى الغد
حتى أرى الحلمَ
يفصلُ
بين الحقيقة والمستحيلْ " .
والأخرى عائِشَةُ السَّيْفيَّةُ التي تقف على عتبة الدخول ، بقصيدتها " ثُنائيّات تِراجيديا الْعِشْقِ وَالْجُنون " :
" خذيني إلى خربشاتِ السطور إلى حيث
ملحمتي تحتويكِ
لتنتصفَ الروح في رقصات
الشموع وتنفضّ في قبضتيكِ
ذريني أمد بكل اتجاه
جسوري على البحرِ والبرّ وصلًا
لكيما تكونَ اتجاهَك دوما
فتختصرَ السيرَ في قِبلتَيْكِ
خذيني أسيرًا لملكِ القياصرِ
ضُمّي العروش بقبضةِ كفٍّ
وقولي لهمْ كيفَ يغدو الرّجالُ عَبيدًا
يهيمونَ في وجنتيكِ
سيلتهمُ النّور بوحَ الظلامِ وينسابُ
وجدي بلا مملكاتٍ ولا سلطناتٍ
ولا بعثراتِ خطوطِ يديكِ
أنا لستُ كاهِنَ كُنْسٍ بئيسًا ولا بائعًا في
النخاسِ رخيصًا
لكيما أساومَ كيْ أشتريكِ
دعي اللاءَ تصرخُ ملءَ البرايا تحيلُ
الأكاسرَ نوقًا عجافًا
تُعيدُ البياضَ إلى مُقلتيكِ
أعيدي نقاطكِ
بل رتبيها
وخطي بحبري ودمعي وظفري
ملاحمَ عشقٍ طواها الصقيعُ وعافتْ
طقوسُ القداسةِ فيها
عنيتِرَ سيّدَ عبلٍ وعبسٍ وملّتْ حكاياتِ
قيسٍ وليلى
فلا كونَ يفصِحُ عما يدور
إذا ما ارتميتُ صريعًا لديكِ
وضمّي النقائضَ ثمّ انسجيها
أقاصيصَ تروي وتحكي
بأني
اصطفيتُ الشقاء غرامًا وعشقًا
وأدمَنْتُ أنثى لعوبًا بَتولًا
فأخْلُدَ رمزًا على صفحتيكِ
سقيتُكِ عطرًا يُداعِبُ فجْري
فهيّا احتويني شروقًا أثيرًا
وهاتِ الحروفَ لكيما تطفّي
جموحي وكبتي إذا يعتريكِ
تعالي
لأرسِلَ فيكِ السرايا وأمتَهنَ اللثم منْ
شفتَيكِ
سنكتُبُ من حبّنا ما ثملنا نبيذًا
وسُكْرا يشلّ الجفونَ
يحرك في كفّه صولجانًا ورشّةَ فلٍّ
تعطر شوقي ولهفي عليك
أريني لماذا تضمّ النساءُ بنصفِ الليالي
ملوكَ العبادِ
لماذا تمشطُ تلكَ الصماصِمُ كبتًا يُعَرّى على
خافقيكِ
ولا تسألي فيمَ أقتصّ بعضي وأرميه ليلا
على كتفيكِ
ألستِ التي قطعَتْني خماسًا
رباعًا ثلاثًا
وأزجَتْ بنِصفي شخوصًا ترنّمُ
صارَ الغرامُ مخاضًا يبدّلُ مثلَ
الشرانِقَ تعبُدُ نفسا تَمَنَّتْ يديكِ
أكُلُّ النساءِ مزيجٌ غريبٌ
جنونٌ نقيضٌ وثوبٌ عريضٌ
يضيق إذا ما احتوى سترتيكِ
سئمتُ الرَّشادَ فعيشُ الجنونِ
ألذُّ وأشهى نبيذٍ قديمٍ
لِيُضحي الوصالُ غصونًا أفاءتْ حياةً
وسحرًا على سدرتيكِ
ويندمِجَ الصيفُ والشتوُ روحًا
تحلقُ دونَ المسير لياليَ
تشدو كطفلٍ مطيعٍ مبالٍ
منابرَ تطفو على قبّتَيكِ
فهيّا نصلي نغني ونبكي
غناءَ المفارقِ والصبّ يا منْ
على قدميكِ يسير ويكبو الرجالُ
أنا البيدُ دونكِ يا سهلَ قلبي ولكنّ
ملكي عُبَيْدٌ لديكِ
خذيها حروبي وخلّي السطورَ
دواوينَ تروي حياتي وموتي
ذريها مقاصلَ تنشقُ حبلًا
مِنَ الودّ أرسى دعائِمَ حكمٍ
أواني شهيدًا مُعنّى بقيدٍ
وإن شئتِ أسميهِ غلًّا ونابًا
ليفتَرس الضّعْفَ مثلَ المهاةِ
تقطعها الضبعُ لحمًا وعظمًا
فذاكَ أنا حينَ لثمي يديكِ
وذاك التماسي هواكِ وعقلي
يتمتم غيظا ألمْ تعتزلها أيا قلبُ
صبحًا
فصحتُ خذي القلبَ في راحتيكِ
خذيهِ لندمج روحي بروحِكِ ننصُبَ نفسي
غمامةَ بوحٍ
أحاطتْ فضاءً حَوى مَظْهَرَيْكِ
هلمّي نرتّبُ لغزَ الطلاسِمِ نرسُمُ في الأفق
طهرَ العذارى
هلمّي لأقتصّ كلي لبعضي وأهديك إياهُ
مُزجًى بوردٍ
وألثَم ذا الكأس من كفتيكِ
لقدْ علمَتني حروبي لأجلِكِ كيفَ يصيرُ
المُتيّمُ ربًّا
يغذي القصيدَ على ضفتيكِ
وكيفَ يُحيلُ الخريفَ جمودًا
ويُحرقُ صيفًا شتاءً صقيعًا
ويغدو التّرابُ هناك نجيعًا
لأرميهِ قعرًا على قُلّتيكِ
وقولي برَبّكِ كيفَ استَحالَ
التمرّغُ توتًا ملا سلّتيكِ
هُنالِكَ فامْحي اختزالَ الزوايا
وأرخي ستائِرَ نزفي سجافًا
وأبقي صوامِعَ نَدْفي ركامًا
ومِنْ ثمّ
ضُمّي شتاتي
وحُطّي
جنوني وشاحًا على قُبلتَيْكِ " .
ومن شاء أن يعثر بينهما على معالم ذلك التحرج ، وجدها في إخراج الكلام من ضمير المتكلم المُحِبِّ ، لا المتكلمة المُحِبَّة التي أظنها صاحبة القصيدة !
لقد هربتا من مباشرة حديث الحب بلسانيهما ، إلى الحديث بلساني محبيهما ، وكأن ليس الحب إلا العبث العابث الشائع ، الذي كره إلينا مادته اللغوية ، حتى قال سيدنا الرافعي : " لَفْظُ الْحُبِّ نُفْسُه لِصٌّ لُغَويٌّ خَبيثٌ ، يَسْرِقُ الْمَعانيَ الَّتي لَيْسَتْ لَه ، وَيُنْفِقُ مِمّا يَسْرِقُ " !
ولكن ثم فرقا جليا يجده المتأمل ، بين المحب الأول الضعيف الذي ينتظر مبادرة محبوبته ، والمحب الآخر القوي الذي ينتزعها ، ويَهيجها إليها . ذاك نائم ينتظر الحلم ، وهذا يقظ ينتزع الحقيقة ، فإن كان كل منهما حريصا على محبوبته ، فمِنَ الْحِرْصِ ما قَتَلَ !
وأعجب ما في النصين ، أن لكل منهما نصيبا من اسم صاحبته ؛ فعلى النص الأول غِلالة من لين نعمة النعمانية في آخر خطاها بالجامعة ، وعلى النص الآخر نِصال من حدة سيف السيفية ، في أولى خطاها بالجامعة ؛ فكأن سعة الحياة الجامعية كفيلة وحدها بتليين كل حدة !
ولكن صدق سيدنا أبو الطيب :
وَوَضْعُ النَّدى في مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلا مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدى
فليتني أستطيع أن أَضْفِرَ القصيدتين في جَديلَة قَصيدةٍ واحِدَةٍ ، فيها لين النعمة وحِدَّة السيف ؛ فلا يعجز المحب عن حبيبته عجز الأسير ، ولا يبطش بها بطش الآسر !