للدكتور . محمد جمال صقر.
روى البخارى فى باب (كيف يقبض العلم) عن عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء . حتى إذا لم يبقَ عالماً اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئِلوا فأفتوا بغير علم فضلٌّوا وأضلٌّوا" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وقد فهم هذا عنه الصحابة ، وقدروا العلماء قدرهم ، حتى إنه لما مات زيد بن ثابت ـ رضى الله عنه ـ كاتب الوحى وقارىء القرآن وعالم الأنصار ، قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : " مَنْ سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه "
لقد علم سلفنا الصالح أن العلم قائم بالعلماء ، غير منفصل عنهم ، يحيا بحياتهم ، ويفنى بفنائهم ؛ من أجل هذا كان إعزاز العالم لنفسه ، والمتعلم لعمله ، ومن أجل هذا كان احتقار العالم والمتعلم ـ وهما كأنهما شخص واحد ـ للجاهل والمتجهل ـ وهما كأنهما شخص واحد أيضاً.
هذا بعض علماء سلفنا وشعرائهم يقول :
حسود مريض القلب يخفى أنينه ويُضحى كئيب البال عندى حزينه
يلوم على أن رحت فى العلم طالباً أجمِّع من عند الرجال فنونه
وأملك أبكار الكلام وعُونه وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمى دعنى أغالى بقيمتى فقيمة كل الناس ما يحسنونه
إنه يعز نفسه وعمله ، ويحتقر الجاهل وعمله ويسفه رأيه . وقد ضمَّن آخر كلامه كلمة الإمام على ـ كرَّم الله وجهه ـ شهرت حتى صارت مثلاً ، هى "قيمةُ كلُّ امرئ ما يُحْسِنُ"
ولسيدنا علىٍّ كلام فى العلم والعلماء والناس ، نفيس خالد ؛ فقد أخذ بيد غلامه ثم قال له : " يا كميل بن زياد ، إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها ، فاحفظ عنى ما أقول لك : الناس ثلاثة : فعالم ربانى ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رَعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ،ٍ ولم يَلْجأوا إلى ركنٍ وثيق . يا كميل ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنتَ تحرس المال ، والمال تُنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله . يا كميل بن زياد ، معرفة العلم دين يدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة فى حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكم ، والمال محكوم عليه "
وقد فهم هذا التصنيف عنه التابعون ؛ حتى إنه لما سُئِلَ ابن المبارك : من الناس؟
قال : العلماء ! فكأنَّه لم يَرَ غيرهم ناساً {إن هم إلا كالأنعام} .
وإنما العلم أستاذ وتلميذ ، بينهما رحم العلم ، ولكل تلميذ من أستاذه نصيب . كان العربى القديم إذا قال " أنا من غَزيَّة" علم سامعوه أنه متبع قومه غير مبال أغووا أم رشدوا . وكذلك التلميذ اليوم ـ ولا سيَّما فى الدراسات العليا ـ إذا قال : أنا تلميذ فلان ، علم سامعوه أجاد هو أم هازل؟ أوَرحب الصدر أم ضيِّق العطن ؟ بل ربَّما علموا أكريم هو أم بخيل ؟!
وماذلك إلا بعض آثار " أنا من غزية"!
ألا فلتتق الله "غزية" ، ألا فلترشد " غزية" ، ألا فليعلم أساتذة هذا الزمن أن تلامذتهم يقلدونهم ، وأنها السنة تُتَّبع ، وأنهم بين الأجر والوزر يقعون !
وربما جاز لى ـ وأنا أمثالىٌّ ـ أن أقول : "من أشبه أستاذه فما ظلم" .
((من أروع ما قرات!!)[center]