طائف القدر على راقص الميدان ولاعب السرك
( نظرة نقدية في علاقة قصيدة " الراقص العجوز " للشاعر العماني بدر الشيباتي ، الصادرة ضمن كتاب مهرجان الشعر العماني الأول ، عن وزارة التراث القومي والثقافة العمانية سنة 1998 م ، بطبعة المطابع الذهبية بسلطنة عمان ،ص14 – بقصيدة " مرثية لاعب سيرك " للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي ، الصادرة ضمن مجموعته " مرثية العمر الجميل " بديوانه ، عن دار العودة ببيروت ، بطبعته الثالثة سنة 1982 م ، ص525 . ) .
إنها لسنة مستديرة تلك التي يطوف بها طائف القدر على البشر ، فيحفز الشاعر المصري أحمد حجازي ، إلى اتخاذ دائرة " السيرك " ، ثم الشاعر العماني بدر الشيباني ، إلى اتخاذ دائرة الميدان ، مجال تعبير عنها وهي التي أوجزها الشاعر العراقي الشريف الرضي قديما بقوله :
" تمضي علينا ثم تمضي نبا " ،
هكذا دواليك ، لاتخرم منا حرفا ؛ فإن صاحب حجازي ينزل إلى دائرة " السيرك " لاعبا بها ، وصاحب الشيباني ينزل إلى دائرة " الميدان " راقصا بها ، فتدور على كل منهما دائرته !
ولكل من الشاعرين وجهة هو موليها :
أما حجازي فإنما تعلق بالمفارقة التي تلبس لاعب " السيرك " كل ليلة ، حين يجتمع جمهور غفير من الناس لا ينجو منه أحد أبدا من أخطاء أيسر الأعمال ، إزاء رجل وحيد نحيل يجب أن يصطنع أخطر الأعمال وألا يخطئ في أي منها :
"في العالم المملوء أخطاء
مطالب وحدك ألا تخطئا
لأن جسمك النحيل
لو مرة أسرع أو أبطأ
هوى وغطى الأرض أشلاء " .
ولا ريب في أنه إنما يطالب بذلك ليندهش مشاهدوه الخطاؤون ، لا لكيلا يهلك ، غير أن الشاعر أراد أن يشدد من وطأة طائف القدر .
وأما الشيباني فإنما تعلق بالمعاناة التي تملأ أقطار نفس راقص الميدان الذي بلغ من خبرته بعمله أن تشتاق إلى أقدامه الأرض ، ويكبر له عن اكتماله البدر ، ويبتهج به الكون كله – حين يدلف إلى ما تعود وخبر ، فلا يكاد يدور دورته المشهورة المشهودة ، حتى يفجأه عجز الشيخوخة :
"حرك ... قدما ... أخرى ... وتقدم
ثانية تبقى كي تكمل دورة حزنك في لوحة رقص
وجه الليل لها يستسلم
حرك .. لاتبخس حق الأرض حنانا
من راحة أقدامك يلثم
حرك وتوزع أجزاء أجزاء في ثانية
يكبر فيها بدر الكون
إذا أقدامك تمنحه السقيا
في رقصة مطر تسقي الكون ولا تسأم " .
وإنه لمما يضرم نار معاناة راقص الميدان العجوز ، ظنه أن نهاية دورته التي تبدأ فرح الآخرين ، نهاية عمره ، وعندئذ تعرض المفارقة أليمة غير مقصودة .
وقريب من ذلك ما يصطنعه لاعب " السيرك " ؛ فله دائما وجهان : بديع ؛ فإنه متى تم له أدهش الآخرين ، وشنيع ؛ فإنه متى تعثر به أهلكه ، غير أنه تعود ذلك كل ليلة طوال عمره ، فإن كان خطر له أول ليلة فقد غيبته عنه العادة ،حتى إنه حين أدركته شناعة ما يصطنع ، ودارت عليه دائرة " السيرك " ابتسم كما كان يفعل ختام عمل كل ليلة :
" حين تدور الدائره
يرتبك الضوء على الجسم المهيض المرتطم
على الذراع المتهدل الكسير والقدم
وتبتسم " .
أوكأنه تذكر ليلة أول ما عمل ذلك ، حين فزع من أن يشتري بهلاكه دهشة الآخرين ، على حين تلصق بالأرض قدم راقص الميدان ، وكأنها تشـعر بقرب فراقه ، فينظر إلى قدمه ويعجب لها : على أي كانت وإلى أي صارت ! ثم يبدو له أن إحجامه وإتمامه سواء ؛ فقد قضى طائف القدر بأن تدور الدائرة ، ومن ثم تأتيه وإن لم يأتها ، وتختمه وإن لم يختمها :
" بُمْ ... بم ... بم ... بُمْ
أقدامك لا تتحرك
ثانية تبقى كي تكمل دورة حزنك
في لوحة رقص ... لكنك لا تتقدم
وتظل تراقب في صمت قدما
كانت مدن جنون لا تسأم
بم .. بم
تتقدم ...
تتقدم نحوك دائرة الميدان لتسرق قدما
كانت دائرة الميدان بها تحلم " .
بين مبتدأ المحاولة ومنتهاها يمعن لاعب " السيرك " في المخاطرة ويراعي الناس ويتعمد إدهاشهم شديدا وينتظر تحاياهم ، ويغفل عن حفر الخطأ التي نثرها طائف القدر على أرجاء دائرة " السيرك " ، وسترها بسجاد الزينة :
" وأنت في منازل الموت تلج .. عابثا مجترئا
وأنت تفلت الحبال للحبال
تركت ملجأ وما ادّركت بعد ملجأ
فيجمد الرعب على الوجوه لذة ، وإشفاقا ، وإصغاء
حتى تعود مستقرا هادئا
ترفع كفيك على رأس الملأ
في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ " .
ويجتهد راقص الميدان أن يتبع الخطوة الوئيدة عيرها لينهج لخلفه منهج الجسارة ، غير غافل عن الحفرة التي جهزها له طائف القدر عند آخر خطوة :
" بم ... بم ...
ينهار جليد صفعته يد الريح
لكي يبقيك بعيدا لا تقدم
حرك
قد تمضي ثانية هي في عمرك كل العمر
وقد تخطئ فيها ... لكنك تكتب في شاهد قبرك ( إني أتعلم ) " .
كلاهما قد نجذته الخطوب ؛ فأما راقص الميدان فشيخ عرك الحياة طويلا ، فعرف مبتدأها ومنتهاها ، وأما لاعب " السيرك " فحسبه أن يعالج الخطر والناس كل ليلة طوال عمره . يرتبك لاعب " السيرك " فيسقط ، ويضيق راقص الميدان فيحجم ، فيفكر الشاعران فيما ألم بصاحبيهما عندئذ ، فأما حجازي فيرى أن صاحبه قد ملأت عينه صورة من ماضيه ، أو تأمل في صورته الحاضرة مزهوا بها ، فشغل عن حساب خطوه :
" إذ تعرض الذكرى
تغطي عريها المفاجئا
وحيدة معتذره
أو يقف الزهو على رأسك طيرا
شاربا ممتلئا " .
وأما الشيباني فيرى أن صاحبه قد أعجزه قيد السن ( صورته الحاضرة ) ، أو سطعت له شمس فتوته ( صورته الماضية ) ، فأحجم عن خطوه :
" تتكبل أقدامك لا تقوى
ثمت حيات تلبس أقدامك دائرة القيد "
" ترسم كف الشمس أمامك خطا
تلمحها فيه عناقيدا تلمسها الريح
لتخطف بصر الأشياء بدون تكلم
تمتد برقصتها في عمقك ... تسقيك جنونا
يجعل عقلك مأخوذا كالطفل إذا يحلم " .
وهما قريب من قريب ، ولا عجب ؛ فمن قديم قال الأخطل : " نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة " ، وفي حديثٍ قال محمود درويش : " أنا مدينة الشعراء " ، وفي كلٍّ إشارة إلى امتزاج المتأخر من الشعراء بالمتقدم ، ودبيب المتقدم بالمتأخر ، امتزاج المعادن بالسبيكة ، ودبيب الدماء بخلايا الجسم ، وأطرف ما في هذه المسلة أن الشاعر لا يعيها ، ولو قد وعاها لأفسد عمله ، ولأمر ما نصح متعلم الشعر قديما بأن يذهب فينسى ما حفظ !
ولقد كان فيما سبق ، كثير من علامات أصالة رسالة الشيباني ، على رغم تأخرها عن رسالة حجازي ونظرها إليها .
وإن من علامات أصالة وسائل الشيباني إلى أداء تلك الرسالة ، اختياره بحر المتدارك : " فاعلْ فاعلْ فعِلن فعِلن " ، الذي يناسب إيقاع طبول الميدان وإيقاع خطو الراقص جميعا معا ، في حين اختار حجازي بحر الرجز ، وهو وزن شعبي غلب على الشعر الحر آنئذ ، على أنه مناسب كذلك للعب اللاعب : "مستفعلن مستعلن متفعلن متعلن " ، على أية هيئة كانت حركته .
ثم إن الشيباني قسم قصيدته إلى خمسة مقاطع على وفق حروف كلمة " ميدان " الخمسة ، ثم بدأها غالبا "ببم بم " التي تمثل صوت الطبول . ومن الطريف جدا أن يتضمن مقطع الألف انفساح أمد ما بين خطوتي الراقص العجوز فانقطاعه ، ثم أن يتضمن مقطع النون نواح النهاية !
أما حجازي فقد قسم قصيدته أولا بعبارة السؤال عن زمان الخطأ :
" في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ "
- إلى عدة مقاطع ، ثم ترك العبارة فاختلطت الأبيات وتداخلت المقاطع .
ثم إن تعلق الشيباني في رسالته بمعاناة راقص الميدان ، أفضى به إلى اصطناع صراع الراقص للجماد المشخص الذي يطرح عليه من خوالج نفسه ، كالأرض والريح ، في حين أن تعلق حجازي في رسالته بالمفارقة التي تحيط بلاعب " السيرك " ، أفضى به إلى اصطناع صراع اللاعب للناس ، فأما تربص الخطأ به فلا مدخل له إلى الصراع لأنه لم يكن يعبأ به .
*********