اعجبني هذا المقال
لفضيلة الشيخ د.عبدالعزيز السعيد
هل عرفت الدين السياسي ؟
الحمد لله وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبدالله وآله وصحبه
أما بعد ؛ فمن الفتنة عما أنزل الله جعل الدين مطية للسياسة ، وهو مايعرف بالدين السياسي ، هذه الطريقة التي تمارسها بعض الأحزاب المتسترة باسم ( الإسلام ) ، وحقيقته رفع شعار الإسلام ؛ لاستجلاب عواطف المسلمين من أجل التعزز بهم ، فإذا توهموا قرب الوصول للحكم ـ كما هي عادتهم منذ عقود خلت ـ تخلوا عما ـ كذبوا ـ أنهم يسعون له ، وهو تطبيق شريعة الله على عباد الله ، ورفعوا أصواتهم نريدها جاهلية ( ديمقراطية ) لا إسلامية ، وقد بينت ضلال هذه الدعوة في مقال سابق بعنوان ( أفي حكم الله شك وفي الديمقراطية يقين ) .
وقد أكسب فعل هذه الأحزاب التي يخالف ظاهرها باطنها وباطنها ظاهرها شرورا كثيرة جدا على أمة الإسلام ، منها :
1 ـ أنهم جعلوا الإسلام مطية للمآرب الذاتية أوالحزبية ؛ مما آل ببعض الناس إلى التشكيك في كل دعوة تريد إرجاع الناس إلى الدين الحق .
2 ـ تحريف نصوص الكتاب والسنة ، والتسلط عليها ، بل وردها صراحة ؛ من أجل تجنيب أنفسهم وأحزابهم معرة ماهم عليه من الضلال ، وإقناع المسلمين بأنهم على سابق عهدهم في الدعوة إلى الدين .
3 ـ جرّ القتل والتعذيب والتشريد على المسلمين باسم الثورات على الأنظمة الطاغية والمستبدة ، وهم في الحقيقة لا يختلفون عنهم، فإذا كان أولئك نحّوا الشريعة ، فهؤلاء نحّوا الشريعة ، فطلبوا حكم الجاهلية ( الديمقراطية ) ، وإذا كان أولئك لم ينكروا على قومهم عبادة القبور التي يرزح تحت وطأتها كثير من جهلة المسلمين ، فإن هؤلاء كذلك ، فما الفرق إذا ؟ هل الفرق الشعارات فقط ؟ هل هؤلاء المنتمون إلى هذه الأحزاب المتأسلمة بينهم وبين الله عهد ( قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون ) ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أونصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) .
تالله لسنا بحاجة إلى شعارات مزيفة بل إلى حقائق صادقة ، والحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق .
والواجب السياسة بالدين ، على معنى أن الشرع يكون حاكما على السياسة ، فلا يكون شيء منها إلا موافقا للشرع في نصوصه وقواعده ومقاصده ، وهذا واجب على الحكام أن يقوموا به ، وواجب على الرعية قبوله والإذعان له .
وهذا النوع أعرض عنه المتحزبون لغير الكتاب والسنة ، ونبذه أخدانهم من الليبراليين والعلمانيين والرافضة المجوس. فاتفقت هذه الطوائف في الغاية ، وإن اختلفت في الوسيلة ؛ ولهذا اجتمعوا تحت مظلة واحدة ، بدعوى جاهلية واحدة ، وشياطين الكفر في الشرق والغرب تشجعهم وتمدهم على نبذ السياسة بالدين .
وأظن أن المسلم اللبيب يلحظ هذا فيما يرفع من شعارات ومطالبات في الثورات الحالية ، ليس فيها طلب تحكيم شرع الله، ولانبذ البدع ، ولا القضاء على مظاهر الشرك ، ولا إغلاق المراقص وكازينوات الفجور والخمور ...!!!
كما أظنه يلحظ ذلك في زمرة تجلس على منصات الفضائيات والمفاوضات بعيدا عن ساحة القتال والفتنة ، تحرض على مزيد من سفك الدماء البريئة ، تتنظر قطف الثمار ، على أشلاء ممزقة ، دفعت بأصحابها ـ على حسن نية من بعضهم ـ للخوض فيها دون غاية صحيحة ، ولاراية محمودة .
فدعوة صادقة إلى المؤمنين والمؤمنات أن يجتنبوا هذه العوائد الجاهلية ، ويكفوا أيديهم عن التلطخ بالدماء، أوالاضرار بالمسلمين ، أوالتغرير بهم بدعوى الشهادة في سبيل الله .
وأخيرا : هناك سؤالان :
السؤال الأول : قد يقول لماذا كان الكلام منصبا على بعض الأحزاب السياسية المتأسلمة ؟ والجواب أن الأحزاب والطوائف الأخرى مكشوفة لأهل السنة وكاشفة لنفسها ؛ فلايركن إليهم ويستحسن طريقتهم إلا ضال مثلهم .
وأما هذه الأحزاب فقد غررت بكثير من المسلمين وأوردتهم المهالك دينا ودنيا باسم الشرع الحنيف ؛ لكنه الشرع الذي وظفوه لفكرهم ، وليس كما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا سمعنا من يطالب بأن تكون الدولة التركية ـ ورئيس وزرائها وحزبها الحاكم من الأحزاب المتأسلمة ـ أنموذجا للدول الإسلامية !! الله أكبر ، أليست تركيا دولة علمانية ؟ أليست قائمة على المبادئ الإلحادية التي أسسها عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ( كمال مصطفى أتاتورك ) فكيف تكون مثالا يحتذى ، إنها لإحدى الكبر!!
وإليك أيها القارئ الكريم برهان ضلالهم
لقد أمر الله رسوله وخليله محمدا صلى الله عليه وسلم ـ وهو عام للأمة ـ بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) تأكيدا لقوله قبل ذلك : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) فأمره بالحكم بما أنزله وحذره من اتباع الهوى أو الافتتنان عن المنزل الذي جعل الله فيه الهداية والرحمة والشفاء والبركة والذكرى والبشرى والنذارة ، وجعله بصائر ، وفصل فيه كل شيء تفصيلا ، فإنه منزل من حكيم عليم ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) ، ومثل هذا الأمر والتحذير ورد في قوله جل شأنه : ( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ) وفي قوله : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) وفي قوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) وفي قوله : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيل فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثما أوكفورا ) . وفي قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) .
فكان ما أراد الله من نبيه صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ) وكما في قوله عز شأنه : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) .
والإعراض عن الوحي المنزل ، والفتنة عن بعض ما أنزل الله : إما لهوى وإمالشهوة ، وكلاهما ذكره الله في القرآن العظيم ، قال تعالى في شأن الهوى يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ . وقال : ( فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) . والشهوة الدنيوية قد تطغى على الإنسان فيقدمها على أمر الله ويفتن بها عنه كليا أوجزئيا ، وكثير من الناس له حظ من ذلك فمستقل ومستكثر ، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار . وقال : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ .
والافتتان عن الوحي المنزل له وجوه متعددة ، منها الجحود ، كما في قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ) ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .
ومنها الإعراض : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) ، ومنها الإنكار (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) .
ومنها الكراهية ، قال تعالى : أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُون ) . ومنها كتمان الحق ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
ومنها هجر المنزل ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله على هذه الآية : ( وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه كما قال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه .
فدعوة صادقة إلى المؤمنين والمؤمنات أن يجتنبوا هذه العوائد الجاهلية ، ويكفوا أيديهم عن التلطخ بالدماء، أوالاضرار بالمسلمين ، أوالتغرير بهم بدعوى الشهادة في سبيل الله . والحمد لله رب العالمين .